في ظل التحولات العمرانية العنيفة التي تشهدها القاهرة — من هدمٍ وتهجيرٍ قسري ومحوٍ لمعالم المدينة — يبرز المشي كمنهجية بحثية بديلة، تتيح لنا فهم المدينة عبر الجسد والحواس المنغمسة في تفاصيل المكان والذاكرة. لا يُمارس المشي هنا كحركة جسدية فقط، بل كأداة نقد وتفكيك، واستكشاف حسي وزمني، يكشف الغياب كما يكشف الحضور، ويُعيد مساءلة العلاقات المألوفة بيننا وبين المدينة.
ضمن هذا الإطار، يقدم مفهوم الانجراف أو الـ "Dérive" كما صاغه المواقفيون (Situationists)، مدخلًا نقدياً للاشتباك مع مدينة شقيانة ومنهكة. فالمشي ليس مجرد تسكعاً عرضيًا أو استكشافاً فردياً ولكن انجرافًا خارج المسارات المتوقعة، و اللقاءات العشوائية، والذكريات المدفونة في جدران الشوارع. هو ممارسة بحثية لا ترصد البيانات بقدر ما تُنصت للصمت، تستدعي الأطياف، وتعيد تركيب الذاكرة من شذراتها، ومن ما تم محوه أو نفيه. و تصبح المدينة نصًا مفتوحًا وأرشيفاً ممزقًا في الآن نفسه، نقرأها ونكتبها مجددًا بخطواتنا وقصصنا وحواسنا.
لا يمر المشي فوق الخرائط فقط، بل يخرقها، ويعيد رسمها من الداخل، ليكشف كيف صُممت حركة الأجساد وفق إرادة السلطة أو السوق، وكيف يمكن كسر تلك الإرادة عبر خطوات منحرفة، متعثرة، أو مقاومة. ليس الغرض هنا استعادة مدينة كاملة، بل تفكيكها عبر الشذرات. تلك التي لا تُقدَّم كأدلة، بل كطرق بديلة للتفكير والحكي. فالشذرة ليست فقدًا، بل موقعاً منهجيًا لمقاومة للنسيان القسري، وخلق مساحة لصوت آخر، هشّ، لكنه حي.
في هذا الإطار، تختار الورشة منطقة قلعة الكبش في حي السيدة زينب كنقطة محورية للدراسة، وكموقع تتقاطع فيه الذاكرة المادية والرمزية، عبر أربعة مشاوير و مسارات ميدانية، تبدأ من أماكن مختلفة، تمر وتصل وتنطلق من قلعة الكبش.
محمد سعيد عز الدين محاضر في التاريخ بكلية كوينز ومرشح دكتوراه بقسم التاريخ في جامعة مدينة نيويورك. يركز مشروعه البحثي الحالي على الزمنيات الثورية، والذاكرات الجيلية، والجندر في مصر بين عامي 1967 و2011. تخرج من قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة ويحمل درجة الماجستير في الدراسات العربية من جامعة جورجتاون، حيث كتب رسالة الماجستير عن تاريخ وذاكرة الأشقياء والإجرام في مصر في مطالع القرن العشرين.